هل للجن جوالات وحضارة مثل الإنس؟

 التحرير والنظر
في الجزم باقتناء الجن للجوالات
وسائر ما اختص به البشر


ويليه


تعزيز التحرير والنظر
في الجزم باقتناء الجن للجوالات
وسائر ما اختص به البشر



عبد الرحمن بن مِيهُوب القَدَّارِي

 

مقدمة المؤلف

سئل الشيخ نجيب الشرعبي حفظه الله:

هل الجن يقتنون جوالات أم هذا يستبعد منهم؟

فكان جوابه:
نعم، يقتنون جوالات تناسبهم، فهم أمة مثلنا، ولهم سيارات، وطيارات، وأسلحة، ومدارس، ومستشفيات، وغير ذلك مما يقتنيه الإنس، أو يكون لديهم.!
وربما عبثوا بجوالات بعض الإنس، ولهم في ذلك أخبار عجيبة.!(1).
فأشكل علي هذا التقرير في أمر من الغيبيات من دون دليل، وارتأيت أن أبحث في الأمر لبيان الحق.
الظاهر أن الشيخ حفظه الله استدل بكون الجن أمة مثلنا، وبنى على هذا أن لهم مما يقتنيه الإنس كالسيارات والأسلحة والمدارس.
وهذا مما لا نوافق عليه، فكونهم أمة مثلنا لا يدل على وسائلهم ولا كيف هي.
ذلك لأنه حتى الحيوانات أمم أمثالنا، قال تعالى:
{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم } [الأنعام: 38].
قال السعدي رحمه الله في بيان هذه الآية:
أي: جميع الحيوانات، الأرضية والهوائية، من البهائم والوحوش والطيور، كلها أمم أمثالكم خلقناها. كما خلقناكم، ورزقناها كما رزقناكم، ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا، كما كانت نافذة فيكم.
وقال القرطبي رحمه الله:
والصحيح إلا أمم أمثالكم في كونها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته ، كما أن رزقكم على الله .
قلت: فلذلك لا يصح الاستدلال بكونهم أمة، على ما غاب من أمرهم.
ومما استند عليه الشيخ، أو استأنس به، أنهم قد يعبثون بالجوالات، وهذا إن صح، فلا دليل فيه على أن لهم مثلما لنا من التقنيات والآلات، لا من قريب ولا من بعيد.
مثال ذلك أن القردة لها أيضا قدرة عجيبة على العبث بالجوالات، ولبس الملابس والنظارات، وتستعمل الكثير من أغراض البشر بكفاءة. بل حتى أن بعضها أظهر قدرة على التفوق في ألعاب الذاكرة على بعض البشر.

ومما يزيد تأكيدا على أن الجن لا يشبهون البشر في الصناعة والتطوير، أنهم يعتمدون على مخلفات الإنس، فقد جاء في صحيح مسلم(2):
عَنْ عَامِرٍ قَالَ: « سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ‌لَيْلَةَ ‌الْجِنِّ؟ قَالَ: فَقَالَ عَلْقَمَةُ: أَنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقُلْتُ: هَلْ شَهِدَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ‌لَيْلَةَ ‌الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَقُلْنَا: اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ!! قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ. فَقَالَ: أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا. وَكُلُّ بَعَْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ».
فإذن: طعامهم فضل طعامنا، ودوابهم تقتات من روث دوابنا.
وقد يـُحتج بامتلاكهم دوابا خاصة بهم، ويقاس على هذا الطائرات والسيارات.
وهذا قياس مع فارق، ذلك لأن هذا الحديث يدل على أنهم يستعملون ما يجدونه في الطبيعة فقط، إذ لو كان لهم أنظمة وأشغال، لتكفلوا بأقواتهم وأقوات دوابهم بالزراعة والطبخ، وهذا أقل شيء. ولكن لا قدرة لهم على ذلك، ولذلك يلجؤون إلى مخلفات الإنس.
فإن كان ذلك كذلك، فعدم قدرتهم على صناعة السيارات والطائرات من باب أولى.
ولنا أن نستأنس بفعل فصيلة من النمل: النمل الراعي. هذا النوع من النمل يستعمل حشرات المن، ويرعاها ويحرسها وينقلها إلى أماكن رعيها ويعيدها إلى مستعمراته، ويستخرج منها عصارتها الحلوة، ويقتات عليها. وهذا كرعي الإنس للغنم والاستفادة من ألبانها. فتبارك الله أحسن الخالقين.
الشاهد من هذا، أن مشابهة النمل الراعي للإنسان في هذا الفعل لا يدل على أنه قادر على الصناعة والتطوير.
 

تسخير الله الجن لسليمان عليه السلام

وقد يُستدل على تمكن الجن من الصناعة وقدرتهم على العمل بقوله تعالى:
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } [سبأ: 13]،
وقوله: { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ } [الأنبياء: 82].
وهذا حق، فالجن كانوا يعملون بأمر نبي الله سليمان عليه السلام، وكانوا مسخّرين له بأمر الله، ولكن، مثلهم مثل الريح، ولا دلالة في ذلك على أن لهم هذه القدرة على سبيل الاستقلال، بمعنى أنهم يبنون وينحتون لأنفسهم كذلك، بل كان ذلك بتسيير من سليمان عليه السلام.
ولذلك، فهذه الآيات لا تدل على أن لهم اليوم حضارة مستقلة كحضارة البشر، ولا أنهم يملكون جوالات ومركبات ومؤسسات.
بل العكس هو الظاهر من حديث زادِهم واعتمادهم على مخلفات الإنس، كما سبق.
فإثبات هذه الأمور الغيبية بمجرد ما وقع زمن سليمان عليه السلام ليس كافيا، ولا يُسوّغ الجزم بما لا دليل عليه من كتاب أو سنة.
ولعلنا نستأنس بكونهم يسكنون ديار الإنس، بدليل ما رواه مسلم في صحيحه، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: ‌لَا ‌مَبِيتَ ‌لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ"1، فهذا فيه دلالة على عدم بنائهم مساكن لهم.
ونستأنس أيضا بسكنهم مواطن الخراب والخلاء وقضاء الحاجة، بدليل التعوذ من الخبث والخبائث في الخلاء.
والشاهد من هذين: أنهما يدلان على تتبع الجن للبشر وعدم استقلالهم، وهذا يعضد دلالة الحديث المذكور آنفا، ويبطل الاستدلال بعمل الجن ما عملوا لسليمان عليه السلام.

نصيحة

وبعد كل هذا، فالسؤال أصلا من التوسع غير المحمود في الغيبيات، إذ ما فائدة معرفتنا هل للجن جوالات أو لا؟
ولا شيء.
ليس في هذا ما يقربنا إلى الله، وليس مما يبنى عليه حكم شرعي أو عمل تعبدي. 
وهناك من أمور العبادة والتكليف ما لا يسعنا الإحاطة به ولو عمرنا ألف سنة، فكيف وأعمار هذه الأمة ما بين الستين والسبعين؟
الأصوب أن ينصح السائل بترك مثل هذا التوسع، ويصرف إلى ما ينفعه في دينه ودنياه.

خاتمة

نسأل الله أن ينفع بهذا البيان، ويجعله خالصا لوجهه الكريم ونافعا في إيضاح الحق.
وإنما كتبناه عملا بأصل التناصح بين أهل العلم وطلابه، لا سيما وأن باب الغيب دقيق، والكلام فيه من غير سلطان مبين من جنس القول على الله بلا علم، وهو من أعظم المحرمات.
والخلاف إنما هو في قيام الدليل من عدمه، والتثبت في هذا الباب أولى وأحكم.
والنصيحة بين الإخوة واجبة، وأهل الفضل تكفيهم الإشارة.
على أننا لا ننفي احتمالية ذهولنا عن دليل من كتاب أو سنة أو فهم السلف الصالح. فإن كان ذلك، فمرحبا به، وعلى العين والرأس.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه عبد الرحمن بن مِيهُوب القَدَّارِي في التاسع من صفر، عام 1447 هجري.


تعزيز التحرير والنظر
في الجزم باقتناء الجن للجوالات
وسائر ما اختص به البشر

 

مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيءات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الأصل في مسائل الغيب أن يكتفى فيها بالمتيقن، ولا يقبل فيها ما يحتمل الوهم والتخيل أو التلبيس. والباب على من يتصدى لإثباتها أضيق، لأنه يتكلم في أمر لا مجال فيه للظنون ولا للتجارب الشخصية، ولا للقياس.
أما منكر هذه الدعوى فليس مطالَبا بإثبات النفي، بل يكفيه أن يبين أنه لم يثبت اليقين، أو أن المعلومة مبنية على أسس قابلة للطعن، أو أن في الأمر احتمالات تبطل الاستدلال به.
وفيما يلي رد على رد الشيخ نجيب – حفظه الله –، جملة جملة.

أورد الشيخ نجيب الشرعبي حفظه الله اعتراضي على فتواه التي جزم فيها باقتناء الجن للجوالات، فقال:


السؤال:

اعترض بعضهم على قولك في بعض فتاويك عن الجن:
(نعم، يقتنون جوالات تناسبهم، فهم أمة مثلنا، ولهم سيارات، وطيارات، وأسلحة، ومدارس، ومستشفيات، وغير ذلك مما يقتنيه الإنس، أو يكون لديهم.!).
ومما اعتمد عليه في اعتراضه:
• أنه من أمر المغيَّبات من دون دليل.
• وأن الحيوانات أمم أمثالنا، كما قال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه أمم أمثالكم}[الأنعام: ٣٨]، ولا يلزم من هذا أن يكون لهم جوالات وسيارات... إلخ.
• وأن الجن لا يشبهون البشر في الصناعة والتطوير؛ لأنهم يعتمدون على مُخَلَّفَات الإنس، كما في صحيح مسلم (رقم: ٤٥٠) عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات ليلة، ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل.
قال: فبتنا بَشَرِّ ليلةٍ بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء.
قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بَشَرِّ ليلةٍ بات بها قوم. فقال: «أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن». قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم».
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم».

فما جوابكم عن هذا؟

قلت:
هذه الصيغة التي طُرح بها الاعتراض ليست هي نص اعتراضي، ولا تمثل صورته الكاملة، بل هي اختصار مخلٌّ أسقط كثيرا من التفصيل الذي بُني عليه الرد. وقد صُوّر الاعتراض وكأنه مجرّد تساؤل سريع، في حين أن أصل الاعتراض الذي عرضته مبني على تحليل موسّع، وردّ متعدد الأوجه.

الجواب

بارك الله فيكم، ورزقنا وإياكم الهدى والسداد.

يجب اعتبار أن للجن خصوصية عن سائر الأمم غيرنا، بأنهم أمة مكلفة، يعقلون، وهذا بالنص والإجماع.

وهم يتكلمون بألسنتا، ويشابهون الإنس في أحوال كثيرة، ويختصون بأحوال كثيرة.
قلت: ليس في كلامنا ما يدل على أننا لم نعتبر خصوصية الجن بالتكليف وأنهم مختلفون عن أمم الحيوانات. ولا دليل في ذلك على تفاصيل أحوالهم.
والذي يظهر، أنه لم يُفهم قصدنا من إيراد أن الحيوانات أيضا أمم أمثالنا. ولذلك سنعيد ذكره تصريحا، وهو: أنه لا يصح القياس بناء على وجود بعض أوجه التشابه. فالمسألة مطالب فيها بالدليل الصريح القطعي من معصوم، لا من ظنون وقياسات مع فروق.

وقد خلق الله الجن قبل الإنس، بالنص والإجماع،
قلت: وهذا صحيح.
وعمروا الأرض قبل الإنس، وكانوا مستقلين حينها بأنفسهم قبل خلق الإنس.
قلت: ومثل هذا العطف مشكلة، إذ فيه استعمال الجزء المتفق عليه (تقدم خلقهم)، لتقرير الجزء الثاني (العمارة والاستقلال في الأرض)، وكأن الثاني نتيجة ضرورية للأول، ويشمله الاتفاق المنصوص عليه، وهذا فيه إيهام لكثير من القراء، سواء قصد الشيخ أو لم يقصد.
وهذا التقرير غير صحيح، إذ لا دليل عليه، لا من كتاب ولا من سنة. جل ما هناك هو بعض القصص عن إفساد جنس من المخلوقات في الأرض قبل آدم عليه السلام، المذكورة في تفسير الآية 30 من سورة البقرة، ولا يصح منها شيء.
بل هي تعارض عدة نصوص:
    1. قول الله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } [البقرة: 29].
       ذكر القرطبي رحمه الله ضمن بيانه لهذه الآية:
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فخوف الإقلال من سوء الظن بالله ; لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم ، وقال في تنزيله : خلق لكم ما في الأرض جميعا وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه
       وقال السعدي رحمه الله في بيان قول الله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } [الجاثية: 13]:
أي: من فضله وإحسانه، وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه
       والشاهد من هذا أن القول بإعمار الجن للأرض قبل الإنس معارضة لمعنى هذه الآيات. فإن نصوص القرآن بينت أن الأرض خلقت لبني آدم، وخلق ما فيها لهم، وسخرت لهم. ولا دليل على غير هذا.
    2. روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه (3335)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [بن مسعود] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".
       فهذا نصٌ صريح في أن أول من قتل على الأرض هو ابن آدم الأول.

وهذا يضحد قول من يستدل بقول الله تعالى { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ليقرر أن الملائكة تذكر حال الجن، وبالتالي فقد سكنوا الأرض قبل الإنس.

فإن قيل: لعل المراد "أول من سنّ القتل في بني آدم"؟

قيل: هذه دعوى، ولا دليل عليها.

       واللفظ عام، وقد جاء تعليله بالسنّة الكونية (لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ)، وهذا يفيد العموم.

وإن قيل: فالحيوانات تقتل؟

       قلنا: وهل الحيوانات من المكلفين؟ لا. والحديث إنما هو خاص بالمكلفين، بدليل لفظ (كفل).

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه الآنف الذكر يدل على أن للجن دوابَّ خاصةً بهم، علفها بعر دواب الإنس.

قلت: وهذا مما لم يُعلّق الشيخ على ردنا عليه، كما سيأتي، إذ ترجح لدينا أنه قد يحتج به، ولم يَرُدَّ على إبطالنا لهذه الاستدلال.
وهذا نص قولنا:
فإذن: طعامهم فضل طعامنا، ودوابهم تقتات من روث دوابنا.
وقد يـُحتج بامتلاكهم دوابا خاصة بهم، ويقاس على هذا الطائرات والسيارات.
وهذا قياس مع فارق، ذلك لأن هذا الحديث يدل على أنهم يستعملون ما يجدونه في الطبيعة فقط، إذ لو كان لهم أنظمة وأشغال، لتكفلوا بأقواتهم وأقوات دوابهم بالزراعة والطبخ، وهذا أقل شيء. ولكن لا قدرة لهم على ذلك، ولذلك يلجؤون إلى مخلفات الإنس.
فإن كان ذلك كذلك، فعدم قدرتهم على صناعة السيارات والطائرات من باب أولى.
ولنا أن نستأنس بفعل فصيلة من النمل: النمل الراعي. هذا النوع من النمل يستعمل حشرات المن، ويرعاها ويحرسها وينقلها إلى أماكن رعيها ويعيدها إلى مستعمراته، ويستخرج منها عصارتها الحلوة، ويقتات عليها. وهذا كرعي الإنس للغنم والاستفادة من ألبانها. فتبارك الله أحسن الخالقين.
الشاهد من هذا، أن مشابهة النمل الراعي للإنسان في هذا الفعل لا يدل على أنه قادر على الصناعة والتطوير.
ولم يُشر الشيخ إلى أيٍّ من هذا، ومثالنا عن النمل الراعي يبطل لزوم الصناعة بمجرد القدرة على استعمال مخلوقات أخرى.
ثم حتى لو ثبتت لهم قدرة على الصناعة، لما دل ذلك على تفاصيل صنعتهم.
ويدل على أن لهم نيرانًا خاصة بهم.
قلت: هذا كذلك لا يصح الاستدلال به على قدرتهم على الصناعة أو إنشاء أنظمة، ولا يدل على أكثر من تمكنهم من إشعالها، ولا ندري حتى كيف يكون ذلك حتى، وهذا أمر لا يقتضي حضارة ولا صنعة.
فمثل هذا أضعف من أن يتخذ دليلا على الاستقلال في المعاش أو القدرة على التصنيع، فضلا عن تفاصيل ذلك. 
وللجن صناعات ومهارات ربما فاقوا فيها الإنس، قال تعالى في شأن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام: {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} [سبأ: ١٢ - ١٣]، وقال تعالى: {والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد }[ص: ٣٧ - ٣٨].

والذي يتبادر إلى الذهن أنهم ما صنعوا ذلك لسليمان إلا وقد عُرِفُوا بصناعته لأنفسهم، والله أعلم.
قلت: حتى هذا رددنا عليه قبل أن يستدل به الشيخ، وخصّصنا له عنوانا كبيرا، وهذا نصه:

تسخير الله الجن لسليمان عليه السلام

وقد يُستدل على تمكن الجن من الصناعة وقدرتهم على العمل بقوله تعالى:
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } [سبأ: 13]،
وقوله: { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ } [الأنبياء: 82].
وهذا حق، فالجن كانوا يعملون بأمر نبي الله سليمان عليه السلام، وكانوا مسخّرين له بأمر الله، ولكن، مثلهم مثل الريح، ولا دلالة في ذلك على أن لهم هذه القدرة على سبيل الاستقلال، بمعنى أنهم يبنون وينحتون لأنفسهم كذلك، بل كان ذلك بتسيير من سليمان عليه السلام.
ولذلك، فهذه الآيات لا تدل على أن لهم اليوم حضارة مستقلة كحضارة البشر، ولا أنهم يملكون جوالات ومركبات ومؤسسات.
بل العكس هو الظاهر من حديث زادِهم واعتمادهم على مخلفات الإنس، كما سبق.
فإثبات هذه الأمور الغيبية بمجرد ما وقع زمن سليمان عليه السلام ليس كافيا، ولا يُسوّغ الجزم بما لا دليل عليه من كتاب أو سنة.

وقد حصل خطأ ولم نرسل للشيخ البحث الكامل، وهذا تكملته:
ولعلنا نستأنس بكونهم يسكنون ديار الإنس، بدليل ما رواه مسلم في صحيحه، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: ‌لَا ‌مَبِيتَ ‌لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ"1، فهذا فيه دلالة على عدم بنائهم مساكن لهم.
ونستأنس أيضا بسكنهم مواطن الخراب والخلاء وقضاء الحاجة، بدليل التعوذ من الخبث والخبائث في الخلاء.
والشاهد من هذين: أنهما يدلان على تتبع الجن للبشر وعدم استقلالهم، وهذا يعضد دلالة الحديث المذكور آنفا، ويبطل الاستدلال بعمل الجن ما عملوا لسليمان عليه السلام.
ولا يستطيع الشيخ أن يوفق بين اعتمادهم على البشر وبين زعمه لاستقلالهم إلا بالظنون، وهذا كما قلنا كل ما يلزمنا لبيان مجانبة قوله للصواب، إذ لا تصلح الظنون في هذا المقام.
ولدينا المزيد من الاعتراض على كلام الشيخ في هذا المقطع:
وللجن صناعات ومهارات ربما فاقوا فيها الإنس
قلت: دعوى بلا دليل، ويكفينا أن نورد احتمال استعمال سليمان عليه السلام لهم بسبب قدراتهم من قوة وسرعة، لا لخبرتهم، ولعل في القرن بين ذكر الريح والجن دلالة على هذا، فكما سُخّرت له الريح لمجرد النقل السريع، سُخّر له الجن للأعمال الشاقة، لا لتميّزهم في الصناعة. أضف لذلك أن التماثيل والقدور ليست شيئا يعجز عنه البشر، بل يحسنون صنعه، ولكن الفرق في السرعة وربما في حجم المصنوعات. أما طريقة العمل فربما كانت من تعليم سليمان عليه السلام لهم، وهذا وارد جدا لأن بناء المسجد لا يترك للجن يبنونه كما يشاؤون، وفي قوله تعالى: { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ } دلالة قوية على أنها مشيءة سليمان عليه السلام، وإنما كان الجن يدا عاملة فقط. وكون بعضهم غواصا يدعم قولنا أكثر فأكثر، إذ لا قدرة للإنس على الغوص لمسافات عميقة، بسبب قوة الضغط التي لا تتحملها أجسادهم.
قال صاحب كتاب "عالم الجن والشياطين"(3)(ص: ٢٧): ولعلهم قد توصلوا منذ القدم إلى اكتشاف مثل: (الراديو والتلفزيون)، فقد ذكر ابن تيمية أن بعض الشيوخ الذين كان لهم اتصال بالجن أخبره، وقال له: إن الجن يُرُوْنَهُ شيئًا برَّاقًا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطلب منه من الأخبار به، قال: فأُخْبِرُ الناس به، ويوصلون إليَّ كلام من استغاث بي من أصحابي!، فأجيبه، فيوصلون جوابي إليه!. ا.ه‍.
قلت: مجرد خبر لا قدرة لنا على التثبت من صحة نقله ولا مضمونه.
ولكن نسلم بصحة كلا الأمرين، ثم نقول:
معلوم من قصة سليمان عليه السلام وعرش ملكة سبأ، أن للجن (أو بعضهم) سرعة فائقة، وهنا نورد احتمال تنقلهم بين مكانين بسرعة فائقة، ونقلهم لتلك الأخبار، وهذا وارد جدا، فنقل الأخبار أسهل بكثير من نقل عرش بأكمله. ومعلوم أن فسقة الجن وكفارهم كذابون ولا يُصَدّقون فيما يُخْبِرون، ولا مانع من تلبيسهم على ذاك الشيخ ببعض الأجسام لتغطية حقيقة فعلهم.
الحاصل أن مثل هذه القصة مما لا يجوز التعويل عليه في أمور الغيب، ولا يجوز أن يُستدل بمثل هذا على أن لهم جوالات.
هذا كله، ثم كيف إذا علمنا أن ابن تيمية رحمه الله، إنما ذكر هذا الخبر في سياق إنكار التعامل مع الجن، فقد قال في أواخر ذكره هذه القصة:
فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ الْخَبِيرُ إنَّكُمْ لَصَادِقُونَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ شَيْطَانِيَّةٌ أَقَرُّوا بِذَلِكَ وَتَابَ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَرَأَوْا أَنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهَا تَحْصُلُ بِمِثْلِ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ فِي الشَّرْعِ وَعِنْدَ الْمَعَاصِي لِلَّهِ فَلَا تَحْصُلُ عِنْدَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّهَا حِينَئِذٍ مِنْ مخارق الشَّيْطَانِ لِأَوْلِيَائِهِ؛ لَا مِنْ كَرَامَاتِ الرَّحْمَنِ لِأَوْلِيَائِهِ(4)

ومنهج السلف هو ذكر ما جرى من أمور الغيب، دون التطرق للاحتمالات، فما رآه هذا الشيخ، لا ندري كيف حصل ولا ما هو.
ثم هب أنهم استعملوا أداة في نقل الأخبار من وإلى ذاك الشيخ، فليس في هذا ما يـُجَوِّز القياس عليه لتقرير تفاصيل غابت عنا.

ومما لا شك فيه أن من الجن من يتصل ببعض الإنس عبر مكالمات صوتية أو مراسلات نصية، من أرقام لهم غريبة،
قلت: كيف لا شك فيه؟ كيف حصل هذا اليقين بأمر من الغيب؟ أين الدليل القطعي في ما أُمِرنا بالسكوت عنه إذا سكت عنه الشرع؟
وهذا قد أخبر به ثقات،
قلت: لا نعلم حال هؤلاء. وحتى لو علمنا، فأقوالهم ليست بدليل. كيف عرفوا هذا؟ وحتى لو رأوه رأي العين، فلا يجوز تصديق الجن فيما يطلعوننا عليه من أخبار أو أحوال. ثم حتى لو جاز، فنعيد مرة أخرى: ليس في هذا ما يـُجَوِّز القياس عليه لتقرير تفاصيل غابت عنا.
وقد رأيت أنا بعض مراسلاتهم الحية للتوِّ يراسلون بعض الإنس إلى جواله من أرقام غريبة، فقد دخلت مرة بيت أحد العوام الطيبين المحبين للسنة، وبيته مسكون بجن، مسكنهم في حمام مهجور من بيته، فجعلت أقرأ، وبدؤوا يهددونه برسائل عبر الجوال، أقرأها، ويرد عليهم!.
قلت: هذه وإن بدت عجيبة، فهي من جنس التجارب لا الأدلة، فلا يُدرى ما حقيقتها، ولا كيف تم إرسال الرسائل أصلا، ولا يُدرى هل ثمة طرف بشري من ورائها. فلا يصح بناء اعتقاد في الغيبيات على مثل هذه المشاهدات، ولا تثبيت أصل غيبي في دين الله بمجرد أنّ الهاتف تلقى رسالة.
تنبيه: لا يجوز الاسترسال مع الجن بأي وجه من وجوه المراسلة، لا مباشرة ولا عبر أجهزة، إذ هذا باب فتنة وتلبيس وتشتيت للراقي، وقد كان السلف يرفضون سماع كلام الله من أهل الأهواء، فكيف بجني مجهول الحال والدين؟ بل الأولى قطع هذا الباب وعدم الالتفات إليه أصلا.
فما المانع من أين يكون لهم جوالات وشبكات تواصل؟!
قلت: لا مانع، عقلا.
ولكن هذا قلب للمسألة، إذ المقام مقام استدلال لا احتمالات.
ما المانع من أن يكونوا استعمروا المريخ ولديهم عدة كواكب تحت سيطرتهم؟
لا مانع. ولكن أين الدليل؟
فالإخبار بهذا ليس إخبارًا عن مغيبات لا يدركها الإنسان،
قلت: الجن كائنات لا تُرى، وفساقها وكفرتها مخادعون ويُلَبِّسون بطرق لا نستطيع إدراكها لما أعطاهم الله من قدرات. فكل ما تعلق بهم من الغيبيات. ولا نجزم بشيء من أمرهم إلا بنص شرعي.
ثم إن إخبار الشيخ بتجاربه شيء، وتقريره لأشياء لا دليل عليها شيء آخر. فنحن ننكر ما يقرره، لا ما يجربه.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شيئًا من أحوال الجن، كقوله - كما في "مجموع الفتاوى"(ج١٩/ص: ٣٩) -: وقد يتناكح الإنس والجن، ويولد بينهما ولد. ا.ه‍.
قلت: فكان ماذا؟ قول شيخ الإسلام لا دليل عليه، وهو من الغيب. وليس بمعصوم، وقد أخطأ، فكان ماذا؟
وإليكم فتوى للشيخ يحيى بن علي الحجوري حفظه الله:
امرأةٌ مسحورة تحس أَنَّ الجني يجامعها، و تحسُ بحملٍ، و هي بكرٌ، فهل يمكن الحمل من الجن ؟ 
2020/07/19
بسم الله الرحمن الرحيم
سائل يقول:
امرأةٌ مسحورة تحس أَنَّ الجني يجامعها، و تحسُ بحملٍ، و هي بكرٌ، فهل يمكن الحمل من الجن ؟
الجواب:
اختلفوا في إمكان حمل الإنسية من الجني، لتباين ما بينهما ، قال تعالى  ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ [النحل: 72]، و لم يعلم يقينا مولد من جني أو أنسية أو العكس، وقد وردت بعض الأحاديث في التوالد بين الجن و الأنس؛ لا يثبت منها شيءٌ، كحديث: " لا تقوم الساعة حتى تكثر فيكم أولاد الجن من نسائكم"، الحديث في الضعيفة ( 5776 ) قال الألباني: منكر جدا، و أبان ضعفه سندا و متنا.
و القول الثاني: بإمكان التوالد بينهما، و به قال ابن تيميه كما في مجموع الفتاوى ( م /19 صفحة 39 )، قال: وقد يتناكح الأنس و الجن و يولد بينهما ولد، و هذا كثير. انتهى من المجموع.
و في هذا القول نظر ، و القول الأول أصح؛ أنه لا توالد بين ما خُلِق من نار و خُلِق من طين؛ لاختلاف مادة الحمل بينهما؛ كاختلاف مادة الحمل بين الإنسان و الحيوان من البهائم و غيرها.
الشيخ يحيى بن علي الحجوري
الأحد 28 ذو القعدة 1441هجرية(5).
قلت: وفي إنكار الألباني الحديث متنا إرواء للغليل. وسوف نذكره إن شاء الله. لله دره من إمام، رحمه الله.
وهذا مجرب قد لمسنا آثاره في قصص عدة لبعض الناس الذين نعرفهم.
قلت: قصصٌ، لا تصلح دليلًا. ومعذرة، ولكن كما قلنا، المقام مقام أدلة، لا ظنون وأقوال. لم يُعلم يقينا حدوث هذا.
ولم يكن هذا من شيخ الإسلام رحمه الله إخبارًا عن مغيبات!، على الرغم من أن بعض الناس ينكر هذا، ومنهم من يكون من المنسوبين إلى الصلاح والفضل والعلم، ومن جهل شيئًا عاداه!.
قلت: إن كان طلب الدليل على الأقوال جهلًا، فليشهد الثقلان أني من أجهلُ الجهّالِ.
وقول شيخ الإسلام هذا من الإخبار عن مغيبات، لأنه لا دليل لشيخ الإسلام على ما قاله، بل الظاهر أنه يستأنس بأقوال العلماء في أحكام هذه المسألة من جواز أو كراهة تحريمية. ولعله أيضا قَبِلَ أخبارا وصلته عن مثل هذا، وليس في ذلك دليل قطعي أيضا. وقد أخطأ في هذا لأنه ليس معصوما. فكان ماذا؟
ولم يجزم الكثير من العلماء بعده بإمكانية حدوث الولد والتزاوج بين الإنس والجن، بل بعضهم شنع على من يقول بذلك، وإليك أمثلة:
    1. الإمام الألباني، حيث قال في السلسلة الضعيفة، الحديث (5776):
(فائدة) : ذكر الذهبي في ((الميزان)) من رواية الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد قال: سمعت شيخنا أبا محمد بن عبد السلام السلمي (يعني: عز الدين) يقول - وجرى ذكر ابن عربي الطائي -:
((وهو شيخ سوء شيعي كذاب. فقلت له: وكذاب أيضاً؟ قال: نعم؛ تذاكرنا بدمشق التزويج بالجن، فقال ابن العربي: هذا محال؛ لأن الإنس جسم كثيف والجن روح لطيف، ولن يعلق الجسم الكثيف الروح اللطيف. ثم بعد قليل رأيته وبه شجة! فقال: تزوجت جنية فرزقت منها ثلاث أولاد، فاتفق يوماً أني أغضبتها، فضربتني بعظم حصلت منه هذه الشجة، وانصرفت، فلم أرها بعد)) .
وعلق الذهبي رحمه الله على تكذيب العز بن عبد السلام للشيخ ابن عربي بقوله:
((وما عندي من محيي الدين تعمد كذباً؛ لكن أثرت فيه الخلوات والجوع فساداً وخيالاً وطرف جنون)) .
والغرض من ذكر هذه الفائدة إنما هو تذكير القراء بأن العلماء يستنكرون أشد الاستنكار إمكانية التزاوج بين الإنس والجن؛ لاختلاف طبيعة خلقهما، حتى اتهموا من ادعى ذلك بالكذب أو بنوع من الجنون، وأحلاهما مر.
فما نسمعه في هذا الزمان من أن بعض النسوة يشعرن وهن في فراش الزوجية بالمجامعة ممن لا يرينه، إن هو إلا من وسوسة الشيطان، وتلاعبه ببني الإنسان،
ويستغل ذلك بعض أولئك الذين يتعاطون مهنة استخراج الجني من الإنسي، ويرتكبون في أثناء ذلك أموراً - غير تلاوة القرآن والمعوذات - مما هو غير واردٍ في السنة، مثل: مكالمة الجني وسؤاله عن بعض الأمور الخفية، وعن دينهم ومذهبهم! وتصديقهم في كل ما يخبرون به! وهم من عالم الغيب، لا يمكن للإنس أن يعرفوا مؤمنهم من كافرهم، والصادق من الكاذب منهم، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم إتيان الكهان وتصديقهم؛ لأنهم ممن يوالون الجن، وهؤلاء كانوا يسترقون السمع ويلقون إلى أوليائهم من الإنس ما استرقوا ويخلطون معه أكثر من مئة كذبة؛ كما في ((الصحيح)) .
أقول: إذا كان إتيان هؤلاء محرماً؛ فبالأولى أن يكون محرماً إتيان أوليائهم من الإنس الذين يخاطبون الجن مباشرة ويستخدمونهم، ويقضون لهم بعض مصالحهم، ليضلوهم عن سبيل الله؛ كما كان الأمر في الجاهلية، وذلك قوله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً} .
       والحديث (5777):
وأما المتن؛ فإني أستبعد جداً - على فقه الإمام مالك - أن يقول في تزويج الإنسية بالجني: ((ما أرى بذلك بأساً في الدين)) ! ذلك لأن من شروط النكاح - كما هو معلوم - الكفاءة في الدين على الأقل. فلا يجوز تزويج مسلمة بكافر، بل ولا بفاسق، فمن أين لوليها وللشهود أيضاً أن يعلموا أن هذا الجني كفؤ لها، وهم لا يعرفونه؟ ! فإنه قد ظهر لهم بصورة رجل خاطب وجمبل! ولا يمكن رؤيته على حقيقته بنص القرآن.
وقد يتمثل بصورة أخرى إنسانية أو حيوانية، وحينئذٍ كيف يمكن تطبيق الأحكام المعروفة في الزوجين - كالطلاق والظهار والنفقة وغيرها - مع اختلاف طبيعة خلقهما؟ ! تالله! إنها من أغرب الغرائب أن يخفى مثل هذا البُطل - بل السُّخف - على العلامة الآلوسي - غفر الله لنا وله -.
وأغرب من ذلك كله قول ابن تيمية في رسالة ((إيضاح الدلالة في عموم الرسالة)) (ص 125 - مجموعة الرسائل المنيرية) :
((وقد يتناكح الإنس والجن، ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف)) ! !
وأقول: نعم؛ هو معروف بين بعض النسوة الضعيفات الأحلام والعقول، ولكن أن الدليل الشرعي والعقلي على التوالد أولاً، وعلى التزواج الشرعي ثانياً؟ ! هيهات هيهات!
وقد علمت مما ذكرته تحت الحديث السابق قبل هذا إنكار العز بن عبد السلام والذهبي على ابن عربي الصوفي ادعاءه أنه تزوج جنية! ! وأنه رزق منها ثلاثة أولاد! ! وأنه لم يعد يراها فيما بعد! ! ! وانظر كلام المازري المبطل لدعوى ابن عربي فيما يأتي تحت الحديث التالي، وهو من الأحاديث التي تساعد على تصديق خرافة التزاوج بين الإنس والجن؛ كمثل أثر مجاهد هذا والحديث الذي قبله.
لله درك يا إمام، لله درك!
       وسءل:
هل زواج المسلم الصحيح العقيدة الواعي دينه هل زواجه بإحدى فتيات الجن، هل هذا ممكن يحدث ؟ وإن كان يمكن يحدث فهل هذا حلال أم حرام أم مكروه ؟
       فأجاب:
رحم الله البخاري لما سئل عن الخضر أحيٌ هو أم ميّت ؟. قال: من أحالك على غائب فما أنصفك، وإيش بدريني الجن وما الجن ورجل يتزوج من امرأة جنية - يضحك رحمه الله تعالى - شو بيكون حال مثل الإنس والجن ولا إذا غلب ماؤها.
هذا بيذكرنا بترجمة محي الدين ابن عربي النكرة، في كتاب الميزان للإمام الذهبي، بعد ما بيترجمه لما كان عليه من الانحراف في تصوفه بيقول: كان يقول بعدم إمكانية تزاوج الإنس مع الجن، قال فرؤي يوماً وقد عَصَبَ جبينَه لما سئل عن ذلك قال: اختلفت أنا وزوجتي الجنيّة فضربتني بالقبقاب في رأسي ففجتني، فهذه العصابة هو لأنه زوجته الجنيّة ضربته، فاعتبر ذلك الإمام ابن الذهبي غمزاً في صدقه، ما - بتشوف بتقول الأيام - أنه هذا لا يمكن ، خُلق من طين، وخُلق من نار، فما بالك الآن بتقول أنه زوجتك الجنيّة ضربتك بالقبقاب؟. هههه(6).
         2. سئل الإمام ابن باز رحمه الله، هل ورد التزوج بين الإنس والجن؟ فأجاب:
ما ورد، ما نعرف في هذا شيئًا، وهذا فيه خلاف بين أهل العلم؛ لأنه لا يعلم، لا يمكن التحقق من إسلامهم، ولا دينهم.. فلا ينبغي التزوج منهم بالكلية؛ لأننا لا نستطيع أن نعرف الحقيقة، وهل دعواه الإسلام صحيحة، أو غير صحيحة، فهو على خطر.(7)

3. وسئل أيضا عن نفس المسألة، فأجاب:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه المسألة ليس لي فيها كلام، ولم أقف فيها على كلام فاصل لأهل العلم، ولا أرى الدخول في ذلك، ولا أنصح بذلك. نعم.1
4. سئل الشيخ الفوزان حفظه الله عن إمكانية زواج الإنس بالجنية أو العكس، هل هذا ممكن شرعا؟ فأجاب:
جرب، دور جن وتزوج منه. هذا شيء ما ننفيه وما نثبته، ما ندري. ولكن أنت جرب. نعم. 
       وسئل أيضا عن نفس المسألة فقال:
هذه المسألة خلافية بين أهل العلم، ولا ندري عنها، الله أعلم، الجن من عالم الغيب، الجن من عالم الغيب، الذين لا نراهم، ولكنهم موجودون، وقد يتعاملون من الإنس، لكن لا نجزم بهذا النكاح، هذا محل نظر وخلاف بين أهل العلم، والحمد لله الإنسيات كثيرات، تزوج من بني آدم، وهن كثيرات والحمد لله.2
قلت: الحمد لله، تقرير لكون المسألة من الغيب.
الحاصل أن ذكر قول شيخ الإسلام في هذه المسألة لتبرير الاستدلال بتجارب وأقوال على مسائل غيبية غير صحيح.
ولو كان قوله من العلم المقطوع به، لما خالفه هؤلاء الأئمة، بذاك الكم من التفصيل والكلام. 
ومنهج السلف في هذه المسائل هو نصح السائل بالابتعاد عن مثل هذا وعدم التوسع، والذي دفعنا لهذا الرد إنما لتقرير ذاك المنهج، والله المستعان.
وقال أيضًا (ج١٩/ص: ٤٤): والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون، في صور الحيات والعقارب، وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم، والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير.
وقال أيضًا (ج١٩/ص: ٥٢): الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرًا، وكذلك صورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة. ا.ه‍.
قلت: هذا لنا لا علينا، فهو يصب في قولنا أن للجن قدرات لا ندركها، وبها يقدرون على التفنن في الكذب والتلبيس والإيهام. هذا زيادة على كوننا لا نقدر على رؤيتهم.
وفي بعض كلامه رحمه الله توسع لم يرد به الدليل، وقد سمعت من ينكره!، لكن شهدت به التجربة والملاحظة.
قلت: وليس هذا بدليل في مسألة من مسائل الغيب. نعم، سأكرر هذا ولو أثار استياء القارئ، لأني أشعر بغيرة أن يجزم بالغيب بالقياس والتجربة، والله المستعان.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضًا (ج١٣/ص: ٩٤): وقد رأيت خط الجن غير مرة. ا.ه‍.
قلت: حتى ولو سلمنا بصحة هذا، فلا يفيد أن لهم تقنيات متطورة، إذ لا يصلح القياس في مسائل الغيب.
وقال أيضًا (ج١٩/ص: ٦٠): قد يُحْتَاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب، فيضرب ضربًا كثيرًا جدًّا، والضرب إنما يقع على الجني، ولا يحس به المصروع، حتى يفيق المصروع، ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ولا يؤثر في بدنه، ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر أو أقل، بحيث لو كان على الإنسي لقتله!، وإنما هو على الجني، والجني يصيح ويصرخ، ويحدث الحاضرين بأمور متعددة، كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين. ا.ه‍.
قلت: هذا حق، ولكن لا علاقة له بزعم التقنيات متطورة. بل إن فيه ما يؤيد قولنا: أن للجن قدرات لا نحيط بها، يستعملونها في التلبيس والكذب، فلا يبنى على أفعالهم جزم بغيب لا دليل عليه.
وقد أخبر إنس ثقات أخذهم الجن بأحوال رأوها من الجن، بأن لهم سياراتٍ، وبيوتًا، وأسواقًا، ومدارس، ومستشفيات، وسفارات!، ولديهم محاكم يتحاكمون فيها، ويحاكمون بعض من يأخذونهم من الإنس!، ولديهم عُمْلَة، وأطعمة يُعِدُّونها ومشارب…
لن نقبل بمثل هذا، ولذلك لأسباب:
    1. لا يمكننا التثبت من حقيقة هذه الأخبار، ومن المعلوم أن باب التخييل والتصور في عالم الجن واسع، إذ لهم قدرة على التمثل والخداع بما لا تدركه عقولنا، وقد يخدعون الإنسان بإظهار ما لا حقيقة له، فكيف يُجزَم بأن ما رآه أولئك حقيقة، لا خيالا وتلاعبا من الجن؟ 
       ومن باب الرد على المخالف من مصادره، نورد نصا من الكتاب الذي أورد منه الشيخ نصا ليدلل به على استعمال الجن لما يشبه التلفاز والمذياع، وهو كتاب (عالم الشياطين والجن)، صفحة 124:
وقد يتساءل بعضنا عن السر في ظهور هذه الأطباق [الطائرة] في أيامنا هذه وعدم ظهورها في العصور الخالية ، فالجواب أن الجنَّ يلبسون لكل عصر لبوسه ، وهذا العصر عصر التقدم العلمي ، ولذلك فإنهم يضللون البشر بالطريقة التي تثير انتباههم ، وتشد نفوسهم ، والناس اليوم يتطلعون إلى معرفة شيء عن الفضاء الواسع وعن امكانية وجود مخلوقات فيه غيرهم .
       ولكن هذا قول لا دليل عليه، وهو من التوسع المذموم في أمور الغيب. فقد توسع الكاتب لدرجة أنه حاول أن يفسر دعاوى الأطباق الطائرة بالجن. وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
       ومع ذلك فكلامه يصلح لنقض دعوى حضارة الجن، لأنه كما أسلفنا، لا نحتاج إلّا لإيراد الشك والظن.
       وأخيرا: لا ننصح بهذا الكتاب ونحذر منه، ومن صاحبه.
    2. ما كان من الغيب لا يُقبل فيه إلا وحي معصوم، أما التجربة فهي ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا.
    3. من باب الاستءناس، لم يَرِد هذا النوع من الأخبار عن الوحي والسلف، في زمن ظهر فيه الصدق وضَعُفَ فيه الكذب والدجل، فخبرٌ من زمنهم أولى. أما في مثل هذا العصر الذي كثر فيه السحرة والمشعوذون والكذابون، فهل يلام المرء على تحفظه ورفضه لدعاوى لا دليل عليها؟
    4. في إقرار مثل هذه الدعاوى فتح باب لكل مدّعٍ ومتوهم، فكل من يزعم أنه "ثقة" سيتكلم عن الغيب دون دليل.
    5. الإنسان قد يرى شيئا، ولا يعرف كنهه، ولا كيف صنع له، ولا يميز بين الحقيقة والوهم، فلا يُجعل ما رآه دليلا.
    6. في هذا الخبر ارتكاب محظورين وهما:
        1. مصاحبة الجن، وقد نهينا عن الاستعانة بهم فضلا عن صحبتهم. 
        2. تصديقهم في دعواهم، وهو من جنس الإخبار عن الغيب بغير علم، ولا يوثق بأفعال قوم يكذبون ويخدعون ويتلبسون.
           فإن قيل: "لم نصاحبهم ولم نصدق أقوالهم، بل أخذونا وأرونا رأي العين"،
           قلنا:
           بل هذه الصحبة واقعة قطعا، شاء القائل أم أبى، فإن الذهاب معهم، والأخذ عنهم، والركون لما يُرَونه ويُدَلّون عليه، كل ذلك من الصحبة. وهل كانت الصحبة في عرف السلف إلا المعاشرة والتلقي؟
وأما التصديق، فإنه لازم بمجرد نقل هذه الرؤى على وجه الإثبات، بلا إنكار ولا تضعيف، بل مع استعمالها في تقرير دعوى أن لهم حياة مطابقة لحياة الإنس.
فإن قيل: "إنما نقلنا ما رأيناه رأي العين"، قلنا – مرة أخرى –:
رؤيا العين في أمور الغيب لا تكفي، لأن الجن قادرون على التخييل، وقد ظهر هذا في وقائع كثيرة من السحر والشعوذة، فرؤية ما يشبه السيارة أو السوق أو المحكمة لا تستلزم وجودها في الحقيقة، بل يحتمل أنه من باب التخييل والتلبيس، خاصة مع غياب القرائن المادية، وعدم إمكان التحقق أو تكرار التجربة بتجرد.
ولا حجة في ما رآه ابن مسعود رضي الله عنه من الجن وآثارهم، فإنما رآهم متشكلين، وكان ذلك بإقرار وإخبار من معصوم على ما رآه، فقياس أخبار بعض "الثقات" على هذا قياس مع فارق.
         زد على ذلك دعوى أن لهم مشروبات ومأكولات يصنعونها…
         كيف يُطْلَبُ منا التسليم بهذا وعندنا من النصوص الشرعية الصريحة أن طعام الجن المؤمنين من بقايا طعامنا الذي سمينا الله عليه، وطعام كفارهم ما لم يسمى عليه الله…
وهذا معلوم مستفيض بين الناس.
قلت: لا والله، لا هو بمعلوم ولا هو بمستفيض، وعلى المدعي الدليل.
ولعل هذا سبق كلام أو زلة قلم، إذ كيف يُجزَم باستفاضة علم هذا الأمر الذي لا دليل عليه، ولم يُنقل عن وحي معصوم، ولا عن صحابي ولا تابعي، ولا عن أحد من الأئمة المعروفين بتحرير مسائل الغيب؟ بل لا يُعرف هذا حتى في زماننا، مع كثرة القنوات، وسرعة تناقل الأخبار، وذيوع العجائب والغرائب، لدرجة أن بعضهم يجتهد في الكذب لنشر مثل هذه الأخبار، فمثلا يزيف البعض المرئيات، ليوهم وجود سيارات غير مرئية تتسبب بحوادث المرور، وكأن سيارة الإنس اصطدمت بسيارة غير مرئية.
فلو كان مستفيضا كما قيل، لعرفه القاصي والداني، ولاشتهر في وسائل الإعلام، ولما احتيج للكذب، ولكن الأمر على العكس، لم نسمع بهذا إلا من نقل الشيخ.
وليس هذا الباب - بحمد الله - شغلًا لنا شاغلًا، وإنما هو جواب عابر على الطريق، وبالله التوفيق.
قلت: ولم نقل بذلك يا شيخ، حفظك الله، إنما قصدنا السائل. أما نصيحتنا لك فكانت ألّا تسترسل مع مثل هذه الأسئلة ولو كانت عابرة بالنسبة لك، لأن السائل إما عامي أو طالب علم، وكونه يتجشم عناء طرح مثل هذا السؤال دلالة على أنه بحاجة للنصح والتوجيه، لا الإقرار.
نسأل الله أن يصلح لنا شأننا كله، وأن يبارك في المعترض اللبيب، وفي المجيب نجيب، إنه قريب مجيب.
قلت: آمين، ونسأله تعالى أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا التوقف عند الدليل والرجوع إليه، والوقوف عند حدود ما أذن الله به في الغيب.
وليس في الرجوع إلى الحق نقص، بل الرجوع إليه مكرمة، وقد كان الأئمة يرجعون عن أقوالهم إذا تبين لهم ضعفها، ولو شاعت بين الناس، وكانوا يرون ذلك من كمال العلم والدين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه عبد الرحمن بن مِيهُوب القَدَّارِي في الرابع عشر من صفر، عام 1447 هجري.